لطالما شغلت أصول المصريين القدماء أذهان المؤرخين، وعلماء الآثار، والمهتمين بالحضارات. فمصر القديمة لم تكن من أوائل المجتمعات المنظمة فحسب، بل شكّلت أيضًا نقطة التقاء بين إفريقيا، وآسيا، وأوروبا. ومع أن السجلات الأثريّة واللغويّة قدمت تصوّرات ثريّة عن هوية السكان، يبقى علم الوراثة الأداة الأقدر على تتبّع السلالات البشرية، ورسم خريطة دقيقة للحركات السكانيّة التي لم توثقها النصوص. ولكن في مصر، ظلّ تحليل الحمض النووي القديم صعبًا بسبب تحلل المادة الجينيّة حتى جاء هذا البحث، والأبحاث المماثلة، للوصول إلى إجابات طال انتظارها.
السؤال: كيف تغيّر التركيب الجيني للمصريين عبر الزمن؟
للإجابة عن هذا السؤال، اعتمد الباحثون على جينوم نادر يعود إلى فرد عاش قبل 4700 عامًا. هذا الجينوم، الذي استُخرج من فرد مدفون بمنطقة النويرات في قرية بني حسن1 وفّر فرصة استثنائية لفهم البنية الجينيّة. بمقارنة هذا الجينوم بجينومات من فترات لاحقة، مثل الفترة الانتقالية الثالث، قبل نحو 3000 سنة، وبالحمض النووي للمصريين المعاصرين، حاول الباحثون تتبّع التغيرات التي طرأت على سكان وادي النيل، وتحديد ما إذا كانت هناك استمرارية أم تحولات كبرى في الأنساب.
المنهجية: التعرّف على هوية المصري القديم بالتقنيات الحديثة
في البداية، تأكد الباحثون من هوية الفرد من خلال تحليل العظام والأسنان، ليتبين أنه ذكر يتراوح عمره بين 44 و64 عامًا، بالإضافة إلى جمع مؤشرات حول نظامه الغذائي ونمط حياته. بعد ذلك، جرى تحليل الحمض النووي المستخرج من أسنانه باستخدام تقنية التسلسل الجيني الكامل Whole Genome Sequencing بالإضافة إلى تقنيات متقدمة في علم الوراثة القديمة. من أبرز هذه التقنيات أداة تُسمى qpAdm، وهي طريقة إحصائية تُستخدم لتحديد مكونات الأصول الجينية للفرد، والمكان الذي ينتسب إليه، وتحديد الشعوب القديمة التي أسهمت في تشكيل خلفيته الوراثية.
كما استخدم الفريق طريقة تُعرف بإحصاءات f4، وهي تقنية تسمح بقياس مدى القرابة الجينية بين مجموعات سكانية مختلفة، في هذه الحالة بين الفرد المنحدر من النويرات ومجموعات قديمة أخرى من شمال إفريقيا ومنطقة الهلال الخصيب2. وأخيرًا، تم فحص آلاف المواقع الجينيّة في جينومات المصريين المعاصرين، لمقارنة مدى تشابههم مع هذا الفرد القديم، وتقدير مدى استمرار الأنساب القديمة في سكان مصر اليوم.
استمرارية، لكن جزئية، وتحولات ملموسة
أظهرت النتائج أن فرد النويرات كان يحمل تركيبة جينيّة تُظهر مزيجًا قويًا من أصول شمال إفريقية نحو 80% من المغرب النيوليتي3 وأخرى من الهلال الخصيب. أما الأفراد من الفترة الانتقالية الثالثة، فقد بدت جيناتهم أقرب إلى بلاد الشام، ما يدل على تأثيرات ديموغرافية لاحقة، ربما بسبب توسع الكنعانيين، أو استيطان الهكسوس. ومع تحليل الحمض النووي للمصريين المعاصرين، تبيّن أنهم لا يزالون يحملون نسبًا كبيرة من هذه الأصول القديمة، لكن توجد أيضًا إشارات واضحة إلى تدفق جيني حديث نسبيًا من جنوب الصحراء الكبرى وشرق إفريقيا، ما يعكس تاريخًا طويلًا من التفاعل السكاني.
تُعدّ هذه الدراسة إنجازًا علميًا مزدوجًا من حيث أهميتها ودلالاتها. فهي أولًا تقدّم أوضح خريطة وراثية حتى الآن لشخص مصري عاش قبل نحو 4700 عام، وتحديدًا في منتصف فترة مصر القديمة، وهي المرحلة التي شهدت بناء الأهرامات وازدهار أول أشكال الحكم المركزي في مصر، ما يمنح الباحثين أداة قوية لفهم تكوين السكان في مصر القديمة بشكل عميق.
وثانيًا، تكشف نتائج الدراسة كيف تغيّر التركيب الجينيّ للمصريين مع مرور الزمن، وذلك نتيجة عوامل مثل الهجرات، والتفاعلات التجاريّة والثقافيّة مع شعوب أخرى من آسيا، وأوروبا، وحتى أجزاء أخرى من إفريقيا. فقد وُجد أن المصريين المعاصرين لا يزالون يحملون نسبة كبيرة من هذا المكون الجينيّ القديم، ولكن الجينومات اليوم تتضمن أيضًا علامات واضحة على اختلاط المصريين بشعوب أخرى جاءت إلى مصر خلال آلاف السنين الماضية.
على الهامش: