منذ فجر التاريخ، والإنسان يتأمل موضعه في هذا الكون الفسيح؛ لا يكتفي بالسير على الأرض، بل يرفع رأسه نحو السماء ويتساءل عن حقيقة الحياة، وما يبطن التعقيد الشديد الذي نشهده في الكائنات الحية من خصائص ومقومات، وبخاصة مع تطور العلوم. مؤخرًا ظهرت رؤى جديدة، إحداها تدعونا للنظر إلى الحياة، بل إلى الكون كله، كمنظومة تقوم بمعالجة المعلومات، وكأنها آلة حاسبة كونيّة ضخمة.
قد تبدو الفكرة غريبة للوهلة الأولى، لكن عند التأمل فيها، يتضح أن الجينات، على سبيل المثال، لا تقتصر وظيفتها على تحديد الصفات الوراثيّة فحسب، بل تقوم أيضًا بترميز ونقل ومعالجة معلومات بيولوجيّة معقدة بدقة مذهلة. ويذهب بعض العلماء إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن الكون بأسره، بما فيه من مجرات، وكواكب، وظواهر، يُمكن النظر إليه كمنظومة تعمل وفق قوانين دقيقة، أشبه بحاسوب هائل يُجري عمليات معقدة باستمرار.
السؤال: هل تعادل قدرة الحياة على الأرض في معالجة المعلومات قدرة الكون كله؟
في هذا السياق، نشر الباحث فيليب كوريان دراسة في مجلة Science Advances، يسأل فيها سؤالًا غير تقليدي: كم عدد العمليات الحسابيّة التي يمكن للحياة، أي جميع أشكال الحياة بالأرض، أن تنفذها على مدار تاريخها؟ وهل يمكن مقارنة النتيجة بإمكانية الكون نفسه لإجراء الحسابات منذ الانفجار العظيم؟
المنهجية: من الفيزياء النظرية إلى البروتينات
استند الباحث إلى أربع ركائز علميّة رئيسيّة. أولًا، قوانين ميكانيكا الكم التي تحدد كيف يمكن للأنظمة أن تنتقل بين حالتين كموميَّتَيْن بطريقة محددة زمنيًا. ثانيًا، الحد الأقصى لسرعة انتقال المعلومات في الكون، والذي تمثله سرعة الضوء، ويشكّل قيدًا على التفاعل بين أجزاء النظام. ثالثًا، كثافة الطاقة الحرجة التي تحدد شكل الكون المادي، وحجمه، وقدرته على معالجة المعلومات. ورابعًا، ما أظهرته النتائج التجريبيّة الحديثة بأن أليافًا بروتينيّة موجودة في الخلايا الحية، وتحديدًا في الهيكل الداخلي للخلية، السيتوسكلتون، يُمكنها الحفاظ على حالات فائقة الإشعاع Superradiance عند درجة حرارة الغرفة.
استخدم كوريان مبرهنة Margolus-Levitin1، وهي مبرهنة في الفيزياء الكموميّة تحدد الحد الأقصى لعدد العمليات المنطقيّة التي يُمكن أن يُجريها أي نظام في الثانية الواحدة بناءً على متوسط طاقته. وانطلاقًا من هذه المبرهنة، أعاد النظر في التقديرات التقليديّة التي تعتمد فقط على الخلايا العصبونيّة، ليصل إلى أن الكائنات الحية، وخصوصًا الخلايا حقيقية النواة، تمتلك بروتينات يُمكنها إجراء عدد ضخم من العمليات الكمومية، يفوق بكثير ما يمكن أن تقوم به الخلايا العصبونيّة التقليديّة.
باحتساب الكتلة الكربونيّة لجميع الكائنات الحية على الأرض، والتي تقدر بحوالي 550 جيجا طن من الكربون، واستنادًا إلى عدد الألياف البروتينيّة في كل خلية، توصل الباحث إلى أن هذه الأنظمة قد تكون قادرة على تنفيذ عمليات حسابيّة تصل إلى مستويات توازي أو تقارب الجذر التربيعيّ لتلك التي يمكن أن يؤديها الكون نفسه منذ نشأته.
الحياة تفوق الحواسيب
بيّن الباحث أن ألياف البروتين الخلوية تستطيع إجراء ما يقارب 10¹³ عملية في الثانية، أي أكثر بمليار مرة من سرعة الخلايا العصبونية. وعند حساب العمليات التي يمكن أن تُجريها الكائنات الحية على الأرض منذ نشأة الحياة، قدّر كوريان أنها تُقارب الجذر التربيعي من إجمالي عدد العمليات التي يمكن أن يجريها الكون المرصود بأكمله منذ الانفجار العظيم، والذي يبلغ تقريبيًا 10120 عملية. هذه النظرية تربط بين أكبر الثوابت الكونية وأصغرها، مثل: مقياس بلانك، من خلال ظاهرة تُعرف بالحياة فائقة الإشعاع. هذه النظرية تظل صحيحة طوال عمر الأرض أي مليار سنة قادمة على الأقل، لكنها قد تتغير في النهاية بسبب تأثيرات دورة الكربونات السيليكات الجيولوجيّة داخل الأرض.
بهذا المقياس، تُصبح الحياة، عبر تفاعلات بروتينية كمومية، أكثر من مجرد نظام بيولوجي، بل كيان حاسوبيّ هائل يقوم على حساب التفاعلات الفيزيائيّة المعقدة، وهو ما يجعله يفوق أي حاسوب كلاسيكيّ أو كموميّ تم ابتكاره حتى الآن. تبقى هذه الأطروحة نظرية تقوم على فرضيات عدة، فإذا ثبت صحتها مستقبلًا، فقد يفتح ذلك آفاقًا جديدة وأسئلة عديدة حول دور الحياة في تمثيلها للحسابات الفيزيائية المعقدة، وكذلك حول الإمكانات المستقبليّة للذكاءات الاصطناعيّة.
على الهامش: