يمثل توليد حزم إلكترونية فائقة الخصائص تحديًا محوريًّا في فيزياء المسرّعات الحديثة، نظرًا لأهميتها في دفع حدود البحث في مجالات متعددة، مثل: فيزياء الطاقات العالية، والكهروديناميكا الكمومية، والفيزياء الفلكية المختبرية، والكيمياء الضوئية فائقة السرعة، وعلوم المواد. وتُعد هذه الحزم أيضًا مكونًا أساسيًّا لتطوير مصادر الضوء ومعجّلات أو مسرّعات الجسيمات المتقدمة.
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف إنتاج حزم ذات كثافات تيار عالية، وبنى زمنية وهندسية دقيقة، تتجاوز ما هو متاح في مرافق المسرّعات الحاليّة، وصولًا إلى تشكيل حزم بكثافة غير مسبوقة. في هذا السياق، اتجهت جهود الباحثين في بحث حديث منشور في دورية Physical Review Letters نحو حزم تصل طاقتها إلى 10 جيجا إلكترون فولت، بزمن نبضة يبلغ مقدار الفيمتوثانية، وتيار كهربائي يبلغ نحو 0.1 ميغا أمبير، لتمكين دراسات متقدمة للتفاعلات بين الإلكترونات والمادة، أو الضوء في الحقول الكهربية عالية الشدة، واستكشاف ظواهر كمومية دقيقة على مستوى الجزيئات والبُنى الذرية.
السؤال: هل يمكن تجاوز حدود كثافة نبضات الحزم الإلكترونية الحالية ؟
انطلقت مشكلة البحث من حاجة المجتمع العلمي إلى حزم إلكترونيّة ذات خصائص استثنائيّة: طاقة فائقة، وزمن نبضة أقصر بكثير مما هو متاح حاليًّا، وشدة تيارٍ هائلة. تكمن الإشكالية في أنّ التجارب العلميّة المتقدمة تتطلّب حزمًا إلكترونيّة تبلغ قيمًا قياسية في سرعتها وكثافتها، وهو ما يصعب تحقيقه بالإمكانيات التي لدينا اليوم.
لذلك، اقترح العلماء فكرة جديدة تعتمد على استخدام تقنيّة تشكيل الحزمة بالليزر Laser Shaping داخل المسرّع، حيث يمكنهم التحكم في شكل تيار الإلكترونات بدقة، مما يسمح بتوليد نبضات إلكترونيّة أكثر شدة وكثافة من أي وقت مضى. يمكن القول إن هذه الطريقة تتيح تشكيل التيار الإلكتروني بحيث يناسب الاحتياجات الخاصة للتجارب المتقدمة.
المنهجية
اعتمد الباحثون على جهازٍ يُسمى مُسخّن الليزر Laser Heater، وهو أداة متطورة تتيح تراكب نبضة ليزرية خاصة مع الحزمة الإلكترونيّة. هذه النبضة الليزريّة تمتلك خصائص زمنيّة وطولية محسوبة بدقة، مما يساعد على إحداث تغييرات بسيطة في طاقة الإلكترونات داخل الحزمة. هذه التغييرات ليست عشوائية، بل يُتحكم بها لتُستخدم لاحقًا في تحسين أداء الحزمة الإلكترونيّة أثناء تسريعها وضغطها.
بعد مرور الحزمة الإلكترونيّة عبر الليزر، تخضع لعدة مراحل تُعرف باسم انضغاط الحزمة Bunch Compression، حيث قُصّر زمن النبضة وزيدت كثافتها، مما يجعلها أكثر شدة. تمر بعد ذلك خلال نوع خاص من المُوجّهات Notch Collimator والذي يضبط زمن الحزمة الإلكترونية عبر قص أجزاء منها. لكن كيف يعرف الباحثون بنجاح العملية؟
أولًا، يُحلل طيف طاقة الحزمة لمعرفة كيف توزعت طاقة الإلكترونات داخلها. ثانيًا، يراقب الباحثون الإشعاع الصادر عن الحزمة عند مرورها داخل مجال مغناطيسيّ، وهي ظاهرة تُعرف باسم الانبعاث المتماسك Coherent Radiation؛ هذا الإشعاع يحمل معلومات دقيقة عن مدة النبضة الإلكترونيّة، مما يساعد في قياس مدى قصرها وتحسين ضبطها.
ثالثًا، تُختبر قدرة الحزمة على إحداث التأين في غاز الهيليوم، أي انتزاع الإلكترونات من ذرات الغاز. إذا تمكنت الحزمة من تحقيق ذلك، فهذا يعني أنها تمتلك مجالًا كهربائيًّا شديد القوة، مما يؤكد نجاح تقنيّة تشكيل الحزمة في زيادة شدتها.
تشكيل الحزم الإلكترونية بنجاح
أظهرت التجارب قدرة النظام على إنتاج حزم إلكترونية ذات خصائص متقدمة، حيث بلغ التيار الناتج 0.1 ميجا أمبير مع نبضات زمنية في حدود الفمتوثانية. هذه النتائج تمثل تطورًا كبيرًا مقارنةً بالتجارب السابقة باستخدام المسرعات التقليدية، إذ تحقق تحسن بمقدار خمسة أضعاف في شدة التيار المولد.
ماذا بعد؟
يتيح النجاح في توليد حزم إلكترونيّة بهذه الخصائص إمكانيات واسعة لتطبيقات مستقبليّة في مجالات علميّة متعددة. إذ يمكن الاستفادة من القدرة على التحكم في شكل وتوزيع التيار الإلكترونيّ لإجراء تجارب جديدة في فيزياء الجسيمات عالية الطاقة، ودراسة التفاعلات بين الحزم الإلكترونيّة والمواد أو الإشعاع. كما تسهم هذه التقنيّة في تطوير مصادر ضوئية متقدمة تعتمد على دقة الحزم الإلكترونية، مما يُعزز الأبحاث في التصوير فائق السرعة والفيزياء الجزيئيّة.
على الهامش: