دراسة العلوم في عهد ترامب 2.0
23 مايو 2025
أثر التقلبات السياسية على المؤسسات العلميّة الأمريكيّة

شهد العهد الثاني للرئيس الأمريكيّ ترامب تغيرات سريعة في عدة اتجاهات، نستعرض منها في هذا المقال ما يتعلق بسياسة التعليم العالي والبحث العلميّ. فعلى مدار الأربعة أشهر الأولى من توليه الرئاسة، انقبضت يد حكومة ترامب عن الجامعات، بدءًا بخفض سقف المصروفات الموجهة لدعم البنية التحتيّة البحثيّة؛ حيث وضعت عدة جهات تمويليّة فيدراليّة حدًا أقصى بلغ 15٪ للمصاريف غير المباشرة المرافقة لأي من منحها، من أبرزها: معاهد الصحة الوطنيّة NIH، والتي تُعد أكبر ممول للأبحاث في مجال الصحة عالميًّا [1وأ]. وفي ظل عدم وجود مصادر تمويل أخرى، ستعاني الجامعات، خاصة الأفقر منها، في الحفاظ  على جودة وغزارة إنتاجها العلميّ. ووفقًا لتقرير من مؤسسة العلوم الوطنيّة الأمريكيّة NSF، كانت الولايات المتحدة الأمريكيّة ثاني أعلى بلد نشرًا للأوراق البحثية، بعد الصين في عام 2022 [2]، ومع هذه التغيرات أتوقع أن يتسع هذا الفارق سريعًا.

كيف سيتأثر البحث في مجالات الصحة؟

إضافة لما سبق، أعلنت حكومة ترامب رغبتها في خفض ميزانية معاهد الصحة الوطنيّة بنسبة تقارب 40٪، لتصل إلى 27 مليار دولار بدلًا من 45 مليار دولار في الوقت الحالي [3]. وبالرغم من ضرورة موافقة الكونجرس على هذا الاقتراح ضمن إقرارها للميزانيّة الجديدة في شهر يوليو، فإن القرار يُشير إلى توجه الإدارة الأمريكيّة الجديدة لخصخصة البحث العلميّ، ووضع زمام الابتكار في أيدي الشركات. إلا أن العديد من هذه الشركات، خاصة الناشئة منها، تُبنى على أفكارٍ، واكتشافاتٍ، وأيدٍ مدربة في المعامل الأكاديميّة. ولذلك فتقليص تمويل البحث الأكاديميّ لن يلبث أن يُهدد قدرة الشركات الأمريكيّة على التنافس دوليًّا، إضافةً إلى أن الشركات الناشئة تحديدًا لا يسعها استقطاب الأجانب، لارتفاع تكاليف الإجراءات القانونيّة.

تحجيم المؤسسات العلميّة العريقة

إضافة لكل ما سبق، فقد استهدفت الإدارة الامريكيّة الجديدة جامعات بعينها، تتضمن مجموعة من أشهر الجامعات عالميًا، مثل: هارفارد، وكولومبيا، وبرينستون، وكورنيل، وبنسيلفانيا؛ نظرًا لتبني هذه الجامعات مبادئ يسارية، مثل: التعدديّة، والمساواة، والتي تثير حفيظة حكومة ترامب. وكذلك لما اعتبرته الحكومة تهاونًا في التعامل مع أنشطة معادية للسامية على أرضها، بعد اندلاع مظاهرات التضامن مع أهل فلسطين عقب القصف الإسرائيلي المدمر والمستمر على غزة، بعد هجوم حماس في أكتوبر عام 2023. 

ويأتي استهداف تلك الجامعات من خلال إيقاف عدد من المنح الفيدرالية، إذا لم تقبل بشروط الحكومة المجحفة، والتي تشمل منع الطلاب من التظاهر بالأقنعة؛ لتسهيل تعرف الجهات الأمنيّة عليهم، وكذلك تبليغ الجامعات عن الطلاب المشاركين في المظاهرات في حال طالبت جهات حكومية بذلك، إضافة لطلب التدخل في قرارات توظيف هيئة التدريس، واختيار الطلبة [4]. ويعتقد البعض أن نصيب هذه الجامعات من المنح الجديدة سيكون أقل في الفترة القادمة، وهذا ما أكده إعلان وزارة التعليم الأمريكيّة في بداية شهر مايو، التي صرّحت فيه بتوقف التمويل الفيدرالي كليًّا عن جامعة هارفارد بالأخص، والذي بدأ تنفيذه بالفعل، لعدم تجاوبها مع طلبات الحكومة.

رد فعل المؤسسات العلميّة المستهدفة

رفضت جامعة هارفارد شروط الحكومة رفضًا قاطعًا؛ مما أدى لقطع التمويل الفدراليّ عنها، ووقف حقها في استقبال الطلبة الأجانب، وتهديدها بتغيير وضعها الضريبيّ لتزداد ضرائبها المدفوعة؛ وذلك لتحجيم  قدرات الجامعة الماديّة أكثر فأكثر، والحد من استقبال المواهب العالميّة التي تثري الحياة الجامعيّة، وتلعب دور مهم في تميز الجامعة عالميًا في مجال البحث العلمي.

وعلى النقيض، أعلنت جامعة كولومبيا القبول بشروط الحكومة في مقابل استبقائها على مبلغ 400 مليون دولار من التمويل الفيدرالي، والذي تمتنع الحكومة عن صرفه حتى الآن. والجدير بالذكر هنا أن الحكومة قد هدّدت هارفارد باستقطاع 9 مليار دولار من التمويل عندما رفضت التجاوب مع الطلبات المجحفة لأول مرة. وحتى وقت كتابة هذا المقال، لم تعلن باقي الجامعات عن موقف محدد.

وقد رفعت جامعة هارفارد وعدد من أساتذتها قضايا ضد الحكومة متهمة إياها بالقطع غير المشروع لمنح سارية، أو بتدخلها في شؤون الجامعة الخاصة، وإجهاض حقها، وحق طلابها وأساتذتها، في التعبير السلميّ، والذي يُعد حقًا دستوريًا لكل فرد ومؤسسة أمريكيّة. كما اجتمعت عدة جامعات وولايات لرفع قضايا مماثلة. ولكن يبقى مسار القضاء طويلاً، وعدالة النتيجة مشكوك في أمرها، خاصة مع تزايد عدد قضاة المحكمة الدستوريّة العليا ذوي التوجه اليمينيّ الذين عينهم ترامب في فترته الرئاسيّة الأولى. وفي اعتقادي، فإن كل التصعيدات تجاه جامعة هارفارد تهدف إلى جعلها عبرة لأي جامعة قد تتجرأ وترفض التدخلات الحكوميّة.

ماذا عن الطلاب العرب الراغبين في الدراسة بالولايات المتحدة؟

من الجدير بالذكر أنه تم إلغاء تأشيرات عدد من الطلاب الدوليين في عدة جامعات بالفعل، كما تم إيقاف آخرون  على الحدود، أو في الشارع، واحتجزوا، أو كان مصيرهم الترحيل، وكان ذلك أحيانًا لسبب غير واضح. وذلك كله بذريعة الحفاظ على الأمن الوطنيّ. ورغم حكم القضاء بعدم قانونيّة العديد من هذه الإجراءات، فإنها تُهدد أمن الطلاب الأجانب، وتحد من قدرتهم على التنقل، والتعبير عن أنفسهم.

ومع استهداف الطلاب الأجانب،  وتشديد إجراءات صدور التأشيرات، أصبح السفر لأمريكا، للدراسة، أو البحث العلمي، أكثر صعوبة ومجازفة من ذي قبل. إضافة إلى انحسار التمويل الذي من شأنه أن يُقلل عدد المشتغلين بالبحث العلمي عامةً، وفي المجالات التي لا تتماشى مع أولويات الحكومة الجديدة خاصةً تلك التي ما تزال تحت قيد التشكيل.

وبالفعل، بدأت بعض الجامعات بتقليص أعداد موظفيها وباحثيها، مثل: جامعة جونز هوبكينز، التي كانت لسنوات تتصدر قائمة الجامعات الأمريكيّة الحاصلة على منح من المعاهد الوطنيّة للصحة. وتبقى جامعات أخرى في حالة من الترقُّب، والذي لن يدوم طويلاً لأسباب ماليّة. ومن المتوقع أن تميل الجامعات الأمريكية إلى تعيين مواطنيها دون الأجانب لسد الشواغر المحدودة في ظل تضييق الحكومة على استقدام الوافدين الأجانب وتعيينهم.

 وعلى الرغم من حداثة هذه القرارات، فإن نسبة الأمريكيين الراغبين في العمل في المملكة المتحدة، وغيرها من الدول الناطقة بالإنجليزية، مثل: كندا، وأستراليا، ونيوزيلاندا، قد تزايدت وفقًا للتقارير الأوليّة [4]؛ وهو ما يزيد من حدة المنافسة على الفرص بهذه الدول. وبحكم العلاقة التاريخية بين أمريكا وأوروبا، قد نرى تدفقًا من الباحثين الأمريكيين للقارة الأوروبية عامة، ليزاحموا بذلك أقرانهم من الوطن العربي. وبينما تعمل أوروبا على زيادة أبواب الفرص للمشتغلين بالعلوم تحت مظلة Choose Europe for Science، تشير المؤشرات الحالية إلى ارتباط الفرص بقدرة الباحثين على الحصول على التمويل [5]؛ ذلك الارتباط الذي يُعطي أفضلية للباحثين المخضرمين أولًا قبل زملائهم الناشئين، والذين لن يحظوا بمثل تلك الفرص إلا بعدما يستقر الباحثون الأكثر خبرة،  وهو ما سيستغرق  وقتًا طويلًا.

وجهة نظر قد تفيد الطلاب الناشئين من العرب

بأخذ كل ما سبق في الاعتبار، فإني لأشجع طلاب العلم الناشئين من الوطن العربي بالتوجه لدول الخليج العربيّ، لمن لم يكن مقيمًا فيها في الوقت الحالي؛ حيث يشهد قطاع التعليم العالي والبحث العلمي طفرة في الاستثمار، ونموًا ملحوظًا. بالإضافة إلى ذلك، فإنه ينبغي التفكير في الدراسة في دول شرق آسيا التي أظهرت تميزًا علميًّا جليًّا، مثل: اليابان، وكوريا، وسنغافورة، وهونج كونج، والصين، مع أن اللغة قد تشكل تحديًّا اجتماعيًّا هناك. تاريخيًّا، لم تستقطب هذه الدول الأمريكيين، مما يبشر بقلة حدة التنافس، لكن يجب توضيح أن حق التعبير في الصين وبعض دول الخليج العربي ليس مكفولًا إلا في سياق ما تسمح به الدولة، مما يقيد الحرية الفكريّة.

ومع ضيق الأحوال المادية في العديد من دول الوطن العربي، أنصحكم بالتريث في التقديم، وتحديد استراتيجيّة تتناسب مع متطلبات ومجالات البرامج المتاحة، وتوافقها مع قدراتكم، واهتماماتكم سواء على المدى القصير او الطويل، مع أخذ سياسات الدول العلمية و الخارجية في الاعتبار. أما السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة، فسيبقى خيارًا صعبًا، ومخاطرةً كبيرةً، خلال السنوات الأربع المقبلة على الأقل.

لقراءة المسيرة العلميّة لأعضاء ساف، يُمكنكم زيارة موقعنا الإلكتروني [6]، كما يُمكنكم مراسلتهم عبر عناوين البريد الإلكتروني  المنشورة  على صفحاتهم، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. 

على الهامش:

أ- قد جرت العادة أن تتفق جهة التمويل الفدراليّة مع كل جامعة على قيمة المصاريف غير المباشرة المناسبة لاحتياجاتها، والتي بلغ متوسطها 27-28٪ من قيمة المنح، مع وصولها الضعف في حالة بعض المؤسسات. وتعتمد الجامعات اعتمادًا كبيرًا على هذه المصاريف لتوظيف المساندين لعملية البحث العلميّ من غير الباحثين، وكذلك لتطوير وإصلاح البنية التحتيّة التي يعتمد عليها الباحثون لإجراء أبحاثهم

ب - كاتبة هذا المقال عضوة هيئة تدريس بجامعة هارفارد، ومقيمة بالولايات المتحدة منذ 10 أعوام، و حاملة للجنسيتين المصرية والأمريكية.

المصادر:

[1]

https://grants.nih.gov/grants/guide/notice-files/NOT-OD-25-068.html

[2] https://ncses.nsf.gov/pubs/nsb202333/publication-output-by-region-country-or-economy-and-by-scientific-field 

[3] https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2025/05/Fiscal-Year-2026-Discretionary-Budget-Request.pdf 

[4]

https://www.harvard.edu/research-funding/wp-content/uploads/sites/16/2025/04/Letter-Sent-to-Harvard-2025-04-11.pdf 

[5]  https://www.nature.com/articles/d41586-025-00938-y

[6] https://www.safonline.org/ar-members 

اقتراح ومراجعة علمية
د/ دعاء مجاهد
جامعة هارفارد
تدقيق ومراجعة لغوية
د/ دعاء مجاهد
جامعة هارفارد
د/ أروى أبو جبل
جامعة أوكسفورد Oxford
د/ أحمد بركات
جامعة ميونيخ التقنية، وكلية الهندسة بجامعة عين شمس
علا زيادة
جامعة القاهرة