في السنوات الأخيرة، أصبحت مقاومة المضادات الحيويّة من أخطر التهديدات الصحيّة التي تواجه العالم. تتفاقم هذه المشكلة بشكل خاص في الدول النامية، حيث تتداخل العوامل البيئية، وسوء استخدام المضادات الحيوية، وضعف البنية التحتيّة الصحيّة لتخلق بيئة خصبة لانتشار البكتيريا المقاومة. في كمبوديا، وهي واحدة من أفقر دول جنوب شرق آسيا، يتزايد خطر مقاومة المضادات الحيويّة وسط تفاعل معقد بين الإنسان، والحيوان، والبيئة. وتشير إلى ذلك دراسة حديثة منشورة في دورية Frontiers in Ecology and the Environment، حيث تُسلط الضوء على هذا الخطر من خلال التركيز على انتشار بكتيريا الإشريكية القولونية E.Coli المقاومة في اللحوم، والبشر.
السؤال: هل يؤدي التفاعل بين البشر والحيوانات في بيئة غير صحيّة إلى انتشار الجينات المقاومة للمضادات الحيويّة في كمبوديا؟
يشكّل هذا السؤال جوهر الدراسة التي أجراها الباحثون، حيث حاولوا فهم العلاقة بين نمط الحياة الريفيّة في كمبوديا، والممارسات الزراعيّة غير المنظمة، ومدى مساهمتها في انتشار البكتيريا المقاومة. تضع الدراسة فرضيّة واضحة، وهي أن التفاعل الوثيق بين البشر والحيوانات، إلى جانب تدهور البيئة الصحيّة وغياب الرقابة على استخدام المضادات الحيويّة، هو سبب رئيس في انتقال الجينات المقاومة بين الأنواع المختلفة.
المنهجية: جمع عينات بشريّة وحيوانيّة لتتبع المقاومة
اعتمد الباحثون في هذه الدراسة على تحليل عينات من بكتيريا E. coli المنتجة لإنزيم البيتا-لاكتماز واسع الطيف ESBL، والتي جُمعت من الأفراد الذين يعيشون بالقرب من مصادر تربية الحيوانات، بالإضافة إلى عينات من اللحوم والأسماك المعروضة في الأسواق الكمبودية. وركّزوا على العناصر الجينيّة المقاومة المتنقلة mobile resistance elements، وهي قطع من الحمض النووي تستطيع البكتيريا من خلالها تبادل صفات مقاومة المضادات الحيويّة بسهولة. استخدم الباحثون تقنيات التسلسل الجيني طويل القراءة long-read sequencing لمعرفة ما إذا كانت تلك العينات تشترك في العناصر الجينيّة المقاومة المتنقلة بدقة.
من خلال تتبع العناصر الوراثية المسؤولة عن المقاومة، سعى الباحثون إلى رصد مسارات انتشار هذه الجينات، وإبراز مدى خطورة التفاعل بين الأفراد، والحيوانات، والبيئة المحيطة بهم، دون ضوابط، خاصة في الأماكن التي تفتقر إلى مياه نظيفة، وصرف صحي ملائم.
جينات مقاومة تتنقل بين الإنسان والحيوان
كشفت الدراسة عن وجود تشابه جيني كبير بين البكتيريا المقاومة التي تعيش في أمعاء البشر وتلك الموجودة في اللحوم، والأسماك المُباعة. ويُشير هذا التشابه إلى انتقال مباشر أو غير مباشر للعناصر المقاومة من الحيوانات إلى البشر، والعكس.
أحد أبرز العوامل المساهمة في هذا الانتشار هو الاستخدام العشوائي للمضادات الحيويّة في تربية الحيوانات، حيث يستخدمها المزارعون الكمبوديين بدلاً من الأدوية البيطريّة المتخصصة؛ إما لخفض التكاليف، أو لسهولة الوصول إليها. وتُضاف إلى ذلك الظروف البيئيّة السيئة، مثل: المياه الملوثة، وتربية الحيوانات في أماكن مفتوحة قرب التجمعات السكنيّة، مما يزيد من فرص التفاعل بين البشر، والحيوانات، والبكتيريا.
كما تؤكد الدراسة أن مقاومة المضادات ليست مجرد مشكلة طبيّة، بل هي قضية بيئيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة. ويُعد الفشل في إدارة استخدام المضادات الحيوية في الزراعة والحيوانات أحد المحركات الكبرى لهذه الكارثة الصامتة.
وهذا الخطر لا يُهدد كمبوديا فقط، بل قد يمتد ليصبح تهديدًا صحيًا عالميًا. فمع العولمة، وسلاسل التوريد الغذائيّة الدوليّة، يُمكن أن تنتقل البكتيريا المقاومة من سوق محلي في كمبوديا إلى مستشفى في باريس. ومن شأن هذه الممارسات أن تقود إلى مستقبل تُصبح فيه العلاجات البسيطة غير فعالة، وتعود فيه العدوى البكتيريّة لكونها تهديدًا قاتلًا كما كانت قبل اكتشاف البنسلين.
على الهامش